أحن إلى قهوة أمي بعد أيام تحل ذكرى رحيلها، ومازلت لا أصدق ولا أعترف بذلك، وكيف أصدق أو أعترف وبصماتها القوية واضحة على حياتي بأسرها.. في الماضي والحاضر وحتى المستقبل.. كثيرون كتبوا يعربون عن افتقادهم للأم التي رحلت منذ سنوات قريبة أو بعيدة .. ولكنني لم أفتقد أبدا أمي التي رحلت عن عالمنا بجسدها منذ 16 عاما ..نعم لم أفتقدها.. لأنها ببساطة تعيش في قلبي وعقلي وطالما هناك نفس يتردد في صدري.. فلم يمر يوم منذ رحلت دون أن أتحدث إليها وأسمع نصائحها.. أراها في أحلامي.. أحدث زوجتي كثيرا عنها.. أنظر إلى نفسي في المرآة وأتذكر أن كل أمر طيب في حياتي كان بسببها.. وكل أمر سيئ كان بسبب عدم التزامي بنصائحها.. وقد تعلمت من أمي الكثير.. علمتني أمي ألا أقدم المصلحة على المبدأ مهما كان الثمن.. وقد التزمت بذلك في حياتي فخسرت الكثير ولكنني لم أخسر نفسي أبدا.. علمتني أمي أن أكون واضحا ومباشرا لا أناور أبدا.. فأقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم.. والحق مكانه النور .. ولا يبحث عن الظلام سوى الباطل.. علمتني أمي الاعتزاز بكرامتي فلا أنافق أو أداهن أبدا.. فالإنسان لا يملك من حطام الحياة سوى كرامته.. ولن يأخذ معه إلى قبره سوى عمله.. ولن يبقى بين الناس سوى ذكراه .. وهنا سيتحدثون عنه باحترام أو احتقار.. علمتني أمي الإيثار وعدم الأنانية وقيمة العمل الجماعي .. فرغم أنني كنت وحيدا إلا أنها ربتني على حب أصدقائي كإخوة لي فكنت أذهب إلى المدرسة حاملا السندويتشات التي أعدتها لهم.. وقد كانت أما لهم جميعا.. علمتني أمي الصلابة فمهما قلبت لي الحياة ظهر المجن فشعوري دائماً أن القادم أفضل .. فاليأس حرام.. والاستسلام جريمة بل يجب أن أحاول مرارا حتى أحقق هدفي.. علمتني أمي التمسك بما اقتنع به قلبي وعقلي أنه الحق ..والدفاع عنه حتى الرمق الأخير دون الوقوع في فخ الإغراء أو الخوف من تهديد.. علمتني أمي احترام الكبير والعطف على الصغير.. والتعامل مع الجميع بأدب واحترام بصرف النظر عن مقاماتهم في هذه الحياة .. علمتني أمي ألا أبخل بما أملك في هذه الحياة.. مال .. وقت.. جهد.. عاطفة.. فالله هو الذي منح وهو القادر على استرداده.. فكنت كلما قدمت للآخرين عوضني الله أضعافا.. نعم تعلمت من حكمة أمي.. السيدة البسيطة من المنصورة أكثر مما تعلمت في كبريات المؤسسات والجامعات التي دخلتها في أكثر الدول تقدما.. لقد كانت أمي أعظم مدرسة نهلت منها وأكبر جامعة تعلمت فيها.. وفي النهاية، إذا كنت لا أعترف برحيل أمي، فإنني أعترف بأنني أحن إلى حضن أمي وقهوة أمي.

البؤساء يقولون إن الزمن يغير كل شيء.. ولكن للواقع رأي مختلف تماما.. فالزمن لا يترك بصماته على الغلابة والفقراء والبؤساء قط. يأتي ويذهب دون أن يشعروا به أبدا. تذكرت ذلك خلال زيارتي الأخيرة للمتحف المصري في قلب ميدان التحرير بالقاهرة، وهو من الأماكن التي أحرص دوما على زيارتها حتي أظل متذكرا جذوري وتاريخ هذه الأرض الطيبة.. وفي هذه المرة لم أقف كثيرا أمام مومياوات ملوكنا العظام وتاريخهم وتوابيتهم وكنوزهم .. ولكنني رصدت أمرين.. الأمرالأول هو وجود الهكسوس في مصر.. وجميعنا درس أنه مع ضعف الفراعنة احتل الهكسوس مصر حتى جاء أحمس وخاض حرب تحرير باسلة وطردهم من البلاد.. والحقيقة غير ذلك.. فمع ضعف الفراعنة ووجود مجاعات في وسط آسيا نزح الهكسوس واستوطنوا الدلتا دون قتال وبمرور الوقت حكموها.. وأما الأمر الثاني الذي لفت نظري في زيارتي للمتحف فهو حياة المواطن المصري البسيط.. ويقول تاريخنا إن عدد السكان في العصور الفرعونية كان قد وصل إلى زهاء ثلاثة ملايين نسمة وإن خمسة بالمئة فقط منهم كانوا متعلمين.. وهؤلاء كانوا كريمة المجتمع.. وعندما ننظر في هذا الأمر نشعر وكأن صفحة التاريخ لم تقلب أبدا.. ورغم طبقية المجتمع المصري إلا أنه اتسم بالمرونة والحراك الإجتماعي .. فالمجتهد.. الشاطر .. الذكي .. يمكنه أن يصعد السلم الإجتماعي ويصبح من الأثرياء.. فهناك القائد العسكري الكبير.. والموظف المهم.. والثري..الذين جاءوا من أسر فقيرة.. واستطاعوا بجدهم واجتهادهم أن يصبحوا من نجوم المجتمع.. ومن أشهر قصص النجاح حكاية القزم سنب الذي وصل إلى أعلى الدرجات الإجتماعية وتزوج من الأسرة المالكة.. ويشهد تمثاله مع أسرته في المتحف المصري على قصة نجاحه.. وكان التحنيط أساسيا بالنسبة للمصري القديم.. غنيا أو فقيرا.. ملكا أو غفيرا.. ولكن تحنيط الملوك يختلف تماماً عن تحنيط رعاياهم الفقراء.. فقد كان تحنيط الفقراء متخلفا يعتمد على التمليح ويخلو من الوسائل المتقدمة والتوابيت والأقنعة الذهبية فضلا عن الذهب والمجوهرات التي توضع في مقابر الملوك.. وقد شاهدت في المتحف مواطنا مصريا فرعونيا فقيرا وهو محنط بطريقة بدائية جعلته مكوما كالجنين وموضوع في قفة ، ظنتها إحدى الزائرات قفة خبز، وهذه القفة ليست سوى تابوته.. وكان يوضع معه الماء وأقراص من العيش الشمسي لتكون زواده في الحياة الآخرة.. فهل تغيرت هذه الصورة البائسة للمواطن المصري القديم الغلبان عما نعيشه الآن؟.. لا أظن..